الأربعاء، 14 يوليو 2010

صـــنـــــــاعـــة الجمـــــــــــــال

.
صناعة الجمال
.
.
*الصحفية فوزية محمد
.
.
الانسان، والطبيعة، والكلمات الساحرة، تلك هي شلالات الجمال الخالدة..
كانوا على الدوام مصدر للإلهام والإبداع، سكنوا قافية الشاعر ولحن المطرب وحلم العذارى وبسمة الصبى، عرفهم الكون فاستوحى من روعتهم معنى الجمال وسماته، فأصبحت كلمة "جمال" مخزن الأذواق الكبير وقبلته الناعمة.
لم يكن التعرف على الجمال يحتاج إلى منسوب معين من العلم والثقافة، بل كانت الفطرة السليمة بَوصَلته الوحيدة تيمّم نحوه أينما لَمَحَته.
.
مر الجمال في رحلته مع عالم الناس بثلاثة مراحل هي :
الفطرة وهي عصر الجمال الزاهي
التوظيف الذي تعثر فيه الجمال
ثم الشذوذ الذي سقط فيه مفهوم الجمال سقوطا مدويا.
.
المرأة كمعيار..
.
لماذا المرأة ؟ سؤال بسيط جوابه أبسط ،
طالما أن قيمة الجمال كامنة في الإنسان والنبات والأنهار والسماء والنجوم والطيور.. وهذا الإنسان كُرم على غيره بحكم إلاهي وأنثاه تجاوزت ذكره فكانت المادة الخضبة لعالم الجمال عبر العصور.
عندما كانت الأنثى طليقة لا تقودها إلا الفطرة كان جمالها محل إجماع لدى الراعي، والفلاح، والصانع ،والتاجر، والعالم، والأمير..لم تكن كيلوبترا قد دخلت دور ازياء ولم تقم بعمليات تجميل ولا شفط ونفخ شفاه...وأقصى ما فعلت انها استعملت العسل والحليب لتنقية البشرة..وحتى جميلات العرب السبعة " ليلى العفيفة، بهيسة بنت أوس، حرقة بنت النعمان، عائشة بنت طلحة، هند بنت النعمانبن بشير، أم البنين، زبيدة بنت جعفر" لم يكن لهن من زينة غير الماء و الكحل.
أما عبلة فلم تخرج بـ "الجينز" والكعب العالي تغري بحبها صاحب المعلقة أحد أقوى الرجال ساعدا وقافية..ولم يكن ذوق عنترة الصافي ليتنكب جمالها الطبيعي...
لبنى وبثينة وليلى وغيرهن من اللواتي يحملن جمالا حيِيًّا كانت أنفسهن أكثر حياء إستسلمن لأهلهن ولم يستسلمن لعواطفهن الجارفة، ذهب جميل وقيس وكثير إلى حال سبيلهم وحفظن الجميلات ماء وجه الأب والعم والأخ والعشيرة..
رغم هذه العواطف الجارفة فإن أصحاب الحب العذري استعملوا الشعرالعذري للتعبير والتصوير فكانت كلمات عنترة العبسي خجولة حتى والحرب مشتعلة في ذروتها فقد كان يصف عبلة تحت رحى القتال بقوله :
.
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني
............................ وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيــل السيوف لأنـهـــــا
....................... ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم
.
رغم مشهد الحرب والدم والمطلع القاسي لهذا البيت فان الشاعر حين انتقل للحديث عن الانثى ووصف جمالها انقلب خطابه 180 درجة مستعملا الكلمات اللينة الرقيقة الهادئة ..حتى هالة الحرب وضغوطها لم تدفع الشاعر لاستعارة الكلمات الملتهبة في وصف الجمال.
إنما الذين إنتهكوا طبيعة الجمال وطمسوا جوانبه المضيئة هم من عمدوا إلى تحويل وجهة الأنثى لتصبح بضاعة وشباك لصيد البلهاء.
على غرار الكثير كان نزار قباني من ضمن الذين أفسدوا على الأنثى طبيعتها وأحدثوا في الجمال ! كيف لا وهو القائل :
.
لو كنت في مدريد في رأس السنة
كنا سهرنا وحدنا
في حانة صغيرة
ليس بها سوانا
تبحث في ظلامها عن بعضها يدانا
كنا شربنا الخمر في اوعية الخشب
.
.
تداولت أيدي الشعراء والإعلاميين ودور الأزياء وتجار الجنس ...على طمس الجمال في جوانبه الطبيعية ، ولم يعد فطرة إنما حولوه إلى صناعة تحت الطلب وكانت الانثى المستهدف الأول، فاليوم تم تشويهها وحددت صلاحيات جمالها ووظف جسدها فأصبحت عبارة عن فخاخ تنصب في الملاهي والنوادي والمجلات ليصطادوا بها ضعاف القلوب وأرباب الشهوات.
.
وهكذا تسربوا كالنمل إلى الفطرة فمسخوها
.
رغم أن جمال القيمة الثابتة هو ذاك الذي يحمل في طياته مضمونا من الحسن تستحسنه مجمل الأذواق و يغذي جميع المشاعر سيان كانت سليمة أوسقيمة وقلَّ ما وقع الإختلاف في مضامينه العامة..فالبسمة والزهرة والليل والقمر والبحر والشمس والشاطئ كلها قيم جمال ثابتة قبل أن تُأوّل وتُوظّف وتُفْعل فيها الأفاعيل.
.
الجمال قيمة إنسانية ينتعش بالتعميم وعادة ما تتحقق له المثالية في جوانبه النظرية حتى إذا نزل إلى الواقع وامتدت له يد النقد والقياس والتخصص ينشطر على نفسه فيتباعد ثم يتنافر ثم يتضاد.. فتصبح الوردة بدعة والضحكة تَشَفِّي والبسمة تَرصُّد...
.
اليوم إذا ناولت سيدة أمام زوجها أو فتاة أمام أبيها كأسا من الماء أو حبة أسبيرين أو قطعة خبز أو سكينا أو فأسا أو مسدسا أو حتى صخرة ربما يمر هذا بسلام ، لكن لو جربت وناولت هذه السيدة أو الفتاة وردة لخرجت بِعاهة مستديمة وتتضاعف عاهتها إذا كانت الوردة حمراء!!!
.
تدخلوا في مجرى الجمال ثم في منابعه فغيروا طعمه ولونه وشكله حتى فُضلت صخرة على وردة !!!
لان الذوق الرفيع والإحساس المرهف أصبح مطبا يجلب المأساة لصاحبه، فالجمال لم يعد مطلقا ودخلت عليه عوامل عدة منها العادات والتقاليد والإتيكيت والمراسيم فغيرت بطاقة هويته وحددت صلاحياته.
لقد جُرِّدَ الجمال من أبعاده النقية السامية وأفرغ من مضامينه الطبيعية، وما فتئت مفاهيمه تشوه ثم تعلب وتشحن عبر العالم من عدة أماكن أبرزها المصنع العملاق USA، هذا المصنع لديه الوزر الأول ويعتبر مجزرة العالم الكبرى وسلخانة الجمال الطبيعي...
من هناك تحولت الحلقات من الأذن وطافت على الحاجب والشفاه والصرة والأنف ...ومن هناك أصبحت أزياء النشاز هي الأصل وما كان بالامس مقززا أصبح اليوم مستحبا بفعل التحالف الماكر بين الآلة الإعلامية ودور الازياء.
.
الأصفر على الأبيض على الأسود على الأزرق على البنفسجي أصبح هو الموضة وشِبه اللباس اللاساتر أصبح صرخة، وجحافل الشباب ماضية تلهث خلف بَوصلة هذه المصانع الخبيثة.
من نفس ذاك المصنع أصبح الجسد الطاهر النقي الخالي من الوشم مُتخلفا وطاف الوشم على كامل البدن وتسرب إلى أماكن حساسة يستنكرها كل ذوق سليم، لكن مصانع الجمال المغشوش شحنت به ملايين العقول المفلسة.
.
كانت منابع الجمال صافية لانها كانت تحت إدارة الطبيعة والآن وقد أوكلت إدارة الجمال بدور الموضة والشركات المصنعة للجنس وفضاءات الشذوذ فقد تحول الجمال عن رسالته وأصبح مثله مثل العنب أصله طيب وفرعه خبيث.

.
.
http://www.alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=8286
.
.

هناك 9 تعليقات:

  1. المنجي الفطناسي 14-07-2010 06:12:11


    عبر مقالاتك يمر سحر وإبداع القلم

    فالمزيد فالمزيد

    ردحذف
  2. Morocco خولة/ 14-07-2010 13:24:38

    بارك الله فيك خالتي

    موضوع متميز ومن مواضيع الساعة فالجمال كما أسلفت أصبح مزيفا

    وشكرا والمزيد من التألق بإذن الله

    ردحذف
  3. مهاجر/ Germany 14-07-2010 17:03:12


    كانت منابع الجمال صافية لأنّها كانت تحت إدارة الطبيعة والآن وقد أوكلت إدارة الجمال بدور الموضة والشركات المصنعة للجنس وفضاءات الشذوذ فقد تحول الجمال عن رسالته وأصبح مثله مثل العنب أصله طيب وفرعه خبيث.



    فعلا لقد أبدعت

    ردحذف
  4. بسم الله الرحمان الرحيم

    كتابة متميزة وطرح جديد ، وبكل جرأتها المعتادة تتفضل الصحفية فوزية محمد للتطرق لموضوع قد أغفلناه في التناول الحبري وعلى صفحات الالكترونيات.

    دمت جمالا وتألقا ، ودام لك التميز

    ردحذف
  5. Germany /Dr. Soumaya 16-07-2010 16:05:58


    يحتاج الإنسان من فترة لأخرى لتحليل بعض الظواهر التي تظهر وتتفشى في المجتمعات،

    وهذا ما قامت به الأستاذة الصحفية فوزية محمد، فقد غرست يديها في أعماق المشكلة لتوصلها إلى القارئ في حلة مضيئة وجذابة

    تميز الموضوع بتحليل قيم وبشجاعة كافية ليدرك الإنسان أحداث التغييرات الاجتماعية والعقلية ، وليعي بضرورة رفض هذا الداء المتفشي باسم الجمال والتقدم

    وهذان أمران في منتهى الأهمية لتنشئة الجيل الصاعد على قيم ثابتة تحترم الإنسان وثوابته..

    لك سيدتي جل احترامي وتقديري برقي أفكارك وتحليلك الهادف المثمر

    بوركت..

    ردحذف
  6. عبد الحميد العدّاسي19 يوليو 2010 في 8:34 ص

    [اليوم إذا ناولت سيدة أمام زوجها أو فتاة أمام أبيها كأسا من الماء أو حبة أسبيرين أو قطعة خبز أو سكينا أو فأسا أو مسدسا أو حتى صخرة ربما يمر هذا بسلام، لكن لو جربت وناولت هذه السيدة أو الفتاة وردة لخرجت بِعاهة مستديمة وتتضاعف عاهتها إذا كانت الوردة حمراء!!!]


    أكسبك الله سبحانه وتعالى جمال العلم والأدب، فرأيت الجمال بعين ترى الجميل جميلا والقبيح قبيحا... طُفتِ في ردهات الطبيعة والبراءة والعفويّة فتمتّعنا معك بالجمال، ثمّ جُلتِ بنا في مصانع تصنّع الجمال فرأينا القبح حتّى أنكرنا الجميل...
    جزاك الله خيرا أخيّة، فقد أبدعت، وأحسنت القرع فوق رؤوس المفسدين!...

    ردحذف
  7. مقال قيم ومفيد وينحدث بلسان الحال..

    سلم الله من حمل القلم ليخط لنا هذه السطور الرائعة

    كلي شوق لقراءة المزيد وكل جديدك

    ردحذف
  8. قارئ/ Germany 26-09-2010 14:01:08


    أظن أن الكاتبة فوزية محمد هي من أتقنت صناعة الجمال عبر حروفها وسطورها الراقية.

    اسمحي لي سيدتي بأن أعبر عن إعجابي الشديد بإبداعك وبرقي قلمك وخصوبة أفكارك.

    كل التحية..

    ردحذف
  9. ما شاء الله..صورت الجمال بأحلى حلة وكشفت لنا مدى بشاعة ما أدخله رواد التجميل البشري على الجمال الطبيعي..

    وللأسف هناك بلاد عربية تبنت أفكار الغرب في التجميل وأخذت تنشرها بين باقي أشقائها! بل والإقبال من عامة الشعب في تزايد وتدافع لمراكز الجمال الصناعي!!!!!

    شكرا لكم..

    ردحذف